كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



(الثَّانِي) أَنَّ مُوسَى عليه السلام لَمَّا نَقَلَ كَلَامَ اللهِ لِإِثْبَاتِ قَوْلِهِ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَ مُوسَى مُخَالِفًا لِمَا قَالَهُ اللهُ.
(وَالثَّالِثُ) أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ كُلَّمَا نَقَلُوا هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ لَفْظُ مِنْ بَيْنِكَ. وَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْمُحَرِّفَ إِذَا حَرَّفَ فَلَمْ يُحَرِّفِ الْكَلَامَ كُلَّهُ؟ قلت: نَحْنُ نَرَى فِي مَحَاكِمِ الْعَدَالَةِ دَائِمًا أَنَّ الْقَبَالَجَاتِ الْمُحَرَّفَةَ يَثْبُتُ تَحْرِيفُ الْأَلْفَاظِ الْمُحَرَّفَةِ فِيهَا مِنْ مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنْهَا غَالِبًا، وَإِنَّ شُهُودَ الزُّورِ يُؤْخَذُ بِبَعْضِ بَيَانَاتِهِمْ، فَالْوَجْهُ الْوَجِيهُ عَلَى أَنَّ عَادَةَ اللهِ جَارِيَةٌ بِأَنَّهُ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ، وَبِأَنَّهُ يُظْهِرُ خِيَانَةَ خَائِنِ الدِّينِ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ، فَبِمُقْتَضَى هَذِهِ الْعَادَةِ يَصْدُرُ عَنِ الْخَائِنِ شَيْءٌ مَا تَظْهَرُ بِهِ خِيَانَتُهُ، عَلَى أَنَّهُ لَا تُوجَدُ مِلَّةٌ يَكُونُ أَهْلُهَا كُلُّهُمْ خَائِنِينَ. فَالْخَائِنُونَ الَّذِينَ حَرَّفُوا كُتُبَ الْعَهْدَيْنِ كَانَ لَهُمْ لُحَّاظٌ مَا مِنْ جَانِبِ بَعْضِ الْمُتَدَيِّنِينَ فَلِذَلِكَ مَا بَدَّلُوا الْكُلَّ. انْتَهَى.
أَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ السَّابِعِ. وَأَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الثَّانِي: إِنَّ آيَةَ الْإِنْجِيلِ هَكَذَا لِأَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي لِأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي وَلَيْسَ فِيهَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مُوسَى عليه السلام كَتَبَ فِي حَقِّهِ فِي الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ بَلِ الْمَفْهُومِ مِنْهُ أَنَّ مُوسَى كَتَبَ فِي حَقِّهِ مُطْلَقًا وَهَذَا يَصْدُقُ إِذَا وُجِدَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ التَّوْرَاةِ، إِشَارَةً إِلَيْهِ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ هَذَا الْأَمْرَ كَمَا سَتَعْرِفُ فِي ذَيْلِ بَيَانِ الْبِشَارَةِ الثَّالِثَةِ، لَكِنَّنَا نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِشَارَةً إِلَى هَذِهِ الْبِشَارَةِ لِلْوُجُوهِ الَّتِي عَرَفْتَهَا، وَقَدِ ادَّعَى هَذَا الْمُعْتَرِضُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي مِنَ الْمِيزَانِ أَنَّ الْآيَةَ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ، فَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِتَصْحِيحِ قَوْلِ عِيسَى عليه السلام، نَعَمْ لَوْ قَالَ عِيسَى عليه السلام: إِنَّ مُوسَى عليه السلام مَا أَشَارَ فِي أَسْفَارِهِ الْخَمْسَةِ إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا إِلَى لَكَانَ لِهَذَا التَّوَهُّمِ مَجَالٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ.
(الْبِشَارَةُ الثَّانِيَةُ).
الْآيَةُ 21 مِنَ الْبَابِ 32 مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ التَّثْنِيَةِ هَكَذَا هُمْ أَغَارُونِي بِغَيْرِ إِلَهٍ وَأَغْضَبُونِي بِمَعْبُودَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَأَنَا أَيْضًا أُغَيِّرُهُمْ بِغَيْرِ شَعْبٍ وَبِشَعْبٍ جَاهِلٍ أُغْضِبُهُمْ وَالْمُرَادُ بِشَعْبٍ جَاهِلٍ الْعَرَبُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، وَمَا كَانَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَا مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا مِنَ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَا كَانُوا يَعْرِفُونَ سِوَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَكَانُوا مُحَقَّرَينَ عِنْدَ الْيَهُودِ لِكَوْنِهِمْ مِنْ هَاجَرَ الْجَارِيَةِ، فَمَقْصُودُ الْآيَةِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَغَارُونِي بِعِبَادَةِ الْمَعْبُودَاتِ الْبَاطِلَةِ فَأُغَيِّرُهُمْ بِاصْطِفَاءِ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَهُمْ مُحَقَّرُونَ وَجَاهِلُونَ، فَأَوْفَى بِمَا وَعَدَ، فَبَعَثَ مِنَ الْعَرَبِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَهَدَاهُمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (62: 2) وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّعْبِ الْجَاهِلِ الْيُونَانِيِّينَ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِ مُقَدِّسِهِمْ بُولُسَ فِي الْبَابِ الْعَاشِرِ مِنَ الرِّسَالَةِ الرُّومِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْيُونَانِيِّينَ قَبْلَ ظُهُورِ عِيسَى عليه السلام بِأَزْيَدَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ كَانُوا فَائِقِينَ عَلَى أَهْلِ الْعَالَمِ كُلِّهِمْ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ، وَكَانَ مِنْهُمْ جَمِيعُ الْحُكَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ مِثْلَ سُقْرَاطَ وَبِقِرَاطَ وَفَيثَاغُورْسَ وَأَفْلَاطُونَ وَأَرَسْطَاطَالِيسَ وَأَرْشَمِيدِسَ وَبِلِينَاسَ وَأَقْلِيدِسَ وَجَالِينُوسَ وَغَيْرِهِمِ الَّذِينَ كَانُوا أَئِمَّةَ الْإِلَهِيَّاتِ وَالرِّيَاضِيَّاتِ وَالطَّبِيعِيَّاتِ وَفُرُوعِهَا قَبْلَ عِيسَى عليه السلام، وَكَانَ الْيُونَانِيُّونَ فِي عَهْدِهِ عَلَى غَايَةِ دَرَجَةِ الْكَمَالِ فِي فُنُونِهِمْ، وَكَانُوا وَاقِفِينَ عَلَى أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَقَصَصِهَا، وَعَلَى سَائِرِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ أَيْضًا بِوَاسِطَةِ تَرْجَمَةِ سبتوجنت الَّتِي ظَهَرَتْ بِاللِّسَانِ الْيُونَانِيِّ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِمِقْدَارِ مِائَتَيْنِ وَسِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً، لَكِنَّهُمْ مَا كَانُوا مُعْتَقِدِينَ لِلْمِلَّةِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَكَانُوا مُتَفَحِّصِينَ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْحِكَمِيَّةِ الْجَدِيدَةِ كَمَا قَالَ مُقَدِّسُهُمْ هَذَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنَ الرِّسَالَةِ الْأُولَى إِلَى أَهْلِ قورنيثوس هَكَذَا: 22 لِأَنَّ الْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً وَالْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً 23 وَلَكِنَّنَا نَحْنُ نُكَرِّزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا لِلْيَهُودِ عَثْرَةً وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّعْبِ الْجَاهِلِ الْيُونَانِيِّينَ، فَكَلَامُ مُقَدِّسِهِمْ فِي الرِّسَالَةِ الرُّومِيَّةِ إِمَّا مُؤَوَّلٌ أَوْ مَرْدُودٌ- وَقَدْ عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّامِنِ أَنَّ قَوْلَهُ سَاقِطٌ عَنِ الِاعْتِبَارِ عِنْدَنَا.
(الْبِشَارَةُ الثَّالِثَةُ).
فِي الْبَابِ الثَّالِثِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1844 هَكَذَا 2 وَقَالَ: جَاءَ الرَّبُّ مِنْ سَيْنَاءَ وَأَشْرَقَ لَنَا مِنْ سَاعِيرَ، وَاسْتَعْلَنَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ وَمَعَهُ أُلُوفُ الْأَطْهَارِ فِي يَمِينِهِ سَنَةً مِنْ نَارٍ، فَمَجِيئُهُ مِنْ سَيْنَاءَ إِعْطَاؤُهُ التَّوْرَاةَ لِمُوسَى عليه السلام، وَإِشْرَاقُهُ مِنْ سَاعِيرَ إِعْطَاؤُهُ الْإِنْجِيلَ لِعِيسَى عليه السلام وَاسْتِعْلَانُهُ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ إِنْزَالُهُ الْقُرْآنَ؛ لِأَنَّ فَارَانَ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ مَكَّةَ، فَقَدْ جَاءَ فِي بَيَانِ حَالِ إِسْمَاعِيلَ عليه السلام مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ (21: 20) وَكَانَ اللهُ مَعَهُ وَنَمَا وَسَكَنَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَصَارَ شَابًّا يَرْمِي بِالسِّهَامِ 21 وَسَكَنَ بَرِّيَّةَ فَارَانَ وَأَخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ امْرَأَةً مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ عليه السلام كَانَتْ سُكْنَاهُ بِمَكَّةَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَنَّ النَّارَ لَمَّا ظَهَرَتْ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ظَهَرَتْ مِنْ سَاعِيرَ وَمِنْ فَارَانَ أَيْضًا، فَانْتَشَرَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّ اللهَ لَوْ خَلَقَ نَارًا فِي مَوْضِعٍ لَا يُقَالُ جَاءَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إِلَّا إِذَا اتَّبَعَ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ وَحْيٌّ نَزَلَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَوْ عُقُوبَةٌ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ الْوَحْيَ اتَّبَعَ تِلْكَ النَّارَ الَّتِي رَآهَا مُوسَى فِي طُورِ سَيْنَاءَ. فَكَذَا لابد أَنْ يَكُونَ فِي سَاعِيرَ وَفَارَانَ.
(الْبِشَارَةُ الرَّابِعَةُ).
فِي الْآيَةِ الْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ وَعَدَ اللهُ فِي حَقِّ إِسْمَاعِيلَ عليه السلام لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1844 هَكَذَا وَعَلَى إِسْمَاعِيلَ أَسْتَجِيبُ لَكَ، هُوذَا أُبَارِكُهُ وَأُكَبِّرُهُ وَأُكَثِّرُهُ جِدًّا فَسَيَلِدُ اثْنَيْ عَشَرَ رَئِيسًا وَأَجْعَلُهُ لِشَعْبٍ كَبِيرٍ قَوْلُهُ: أَجْعَلُهُ لِشَعْبٍ كَبِيرٍ يُشِيرُ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ مَنْ كَانَ لِشَعْبٍ كَبِيرٍ غَيْرَهُ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى حَاكِيًا دُعَاءَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي كَلَامِهِ الْمَجِيدِ أَيْضًا: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2: 129).
وَقَالَ الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِهِ: وَقَدْ تَفَطَّنَ بَعْضُ النُّبَهَاءِ مِمَّنْ نَشَأَ عَلَى لِسَانِ الْيَهُودِ، وَقَرَأَ بَعْضَ كُتُبِهِمْ فَقَالَ: يَخْرُجُ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ عِبَارَةِ التَّوْرَاةِ فِي مَوْضِعَيْنِ اسْمُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِالْعَدَدِ عَلَى مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْيَهُودُ فِيمَا بَيْنَهُمْ:
(الْأَوَّلُ) قَوْلُهُ جِدًّا جِدًّا بِتِلْكَ اللُّغَةِ بِمَا دماد وَعَدَدِ هَذِهِ الْحُرُوفِ اثْنَانِ وَتِسْعُونَ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ اثْنَانِ وَالْمِيمَ أَرْبَعُونَ وَالْأَلِفَ وَاحِدٌ وَالدَّالَ أَرْبَعَةٌ وَالْمِيمَ الثَّانِيَةَ أَرْبَعُونَ وَالْأَلِفَ وَاحِدٌ وَالدَّالَ أَرْبَعَةٌ، وَكَذَلِكَ الْمِيمُ مِنْ مُحَمَّدٍ أَرْبَعُونَ وَالْحَاءُ ثَمَانِيَةٌ وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ وَالدَّالُ أَرْبَعَةٌ.
(وَالثَّانِي) قَوْلُهُ لِشَعْبٍ كَبِيرٍ بِتِلْكَ اللُّغَةِ لغوي غدول فَاللَّامُ عِنْدَهُمْ ثَلَاثُونَ وَالْغَيْنُ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ فِي مَقَامِ الْجِيمِ- إِذْ لَيْسَ فِي لُغَتِهِمْ جِيمٌ وَلَا صَادٌ- وَالْوَاوُ سِتَّةٌ وَالْيَاءُ عَشَرَةٌ وَالْغَيْنُ أَيْضًا ثَلَاثَةٌ وَالدَّالُ أَرْبَعَةٌ وَالْوَاوُ سِتَّةٌ وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ فَمَجْمُوعُ هَذِهِ أَيْضًا اثْنَانِ وَتِسْعُونَ، انْتَهَى كَلَامُهُ بِتَلْخِيصٍ مَا.
وَعَبْدُ السَّلَامِ كَانَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ ثُمَّ أَسْلَمَ فِي عَهْدِ السُّلْطَانِ الْمَرْحُومِ بَايَزِيدَ خَانَ، وَصَنَّفَ رِسَالَةً صَغِيرَةً سَمَّاهَا بِالرِّسَالَةِ الْهَادِيَةِ فَقَالَ فِيهَا: إِنَّ أَكْثَرَ أَدِلَّةِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِحَرْفِ الْجُمَلِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ حَرْفُ أَبْجَدٍ، فَإِنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ حِينَ بَنَى سُلَيْمَانُ النَّبِيُّ عليه السلام بَيْتَ الْمَقْدِسِ اجْتَمَعُوا وَقَالُوا: يَبْقَى هَذَا الْبِنَاءُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ، ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ الْخَرَابُ؛ لِأَنَّهُمْ حَسِبُوا لَفْظَةَ بزأت ثُمَّ قَالَ: وَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ بِأَنَّ الْبَاءَ فِي بمادماد لَيْسَتْ نَفْسَ الْكَلِمَةِ بَلْ هِيَ أَدَاةٌ وَحَرْفٌ جِيءَ بِهِ لِلصِّلَةِ فَلَوْ أُخْرِجَ مِنْهُ لَاحْتَاجَ اسْمُ مُحَمَّدٍ إِلَى بَاءٍ ثَانِيَةٍ وَيُقَالُ: بيماد ماد قُلْنَا: مِنَ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِذَا اجْتَمَعَ الْبَاءَانِ إِحْدَاهُمَا أَدَاةٌ وَالْأُخْرَى مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ تُحْذَفُ الْأَدَاةُ، وَتَبْقَى الَّتِي هِيَ مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ، وَهَذَا شَائِعٌ عِنْدَهُمْ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ مَعْدُودَةٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِهَا انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ.
أَقُولُ: قَدْ صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ صلى الله عليه وسلم مادماد كَمَا فِي شِفَاءِ الْقَاضِي عِيَاضٍ.
(الْبِشَارَةُ الْخَامِسَةُ).
جَاءَ فِي تَرْجَمَاتٍ سَنَةِ 1722 وَسَنَةِ 1831 وَسَنَةِ 1844 الْعَرَبِيَّةِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ 49: 10 فَلَا يَزُولُ الْقَضِيبُ مِنْ يَهُوذَا. وَالْمُدَبِّرُ مِنْ فَخْذِهِ حَتَّى يَجِيءَ الَّذِي لَهُ الْكُلُّ وَإِيَّاهُ تَنْتَظِرُ الْأُمَمُ وَفِي تَرْجَمَةِ سَنَةِ 1811 فَلَا يَزُولُ الْقَضِيبُ مِنْ يَهُوذَا وَالرَّاسِمِ مِنْ تَحْتِ أَمْرِهِ إِلَى أَنْ يَجِيءَ الَّذِي هُوَ لَهُ وَإِلَيْهِ تَجْتَمِعُ الشُّعُوبُ وَلَفْظُ الَّذِي لَهُ الْكُلُّ أَوِ الَّذِي هُوَ لَهُ تَرْجَمَةُ لَفْظِ شيلوه وَفِي تَرْجَمَةِ هَذَا اللَّفْظِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَمَا عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ السَّابِعِ أَيْضًا. وَقَالَ عَبْدُ السَّلَامِ فِي الرِّسَالَةِ الْهَادِيَةِ هَكَذَا لَا يَزُولُ الْحَاكِمُ مِنْ يَهُوذَا وَلَا رَاسِمٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَجِيءَ الَّذِي لَهُ وَإِلَيْهِ تَجْتَمِعُ الشُّعُوبُ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مَجِيءِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ تَمَامِ حُكْمِ مُوسَى وَعِيسَى؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحَاكِمِ هُوَ مُوسَى؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ يَعْقُوبَ مَا جَاءَ صَاحِبُ شَرِيعَةٍ إِلَى زَمَانِ مُوسَى إِلَّا مُوسَى، وَالْمُرَادُ مِنَ الرَّاسِمِ هُوَ عِيسَى؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مُوسَى إِلَى زَمَانِ عِيسَى مَا جَاءَ صَاحِبُ شَرِيعَةٍ إِلَّا عِيسَى، وَبَعْدَهُمَا مَا جَاءَ صَاحِبُ شَرِيعَةٍ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ فِي آخِرِ الْأَيَّامِ، هُوَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بَعْدَ مُضِيِّ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَالرَّاسِمِ مَا جَاءَ إِلَّا سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: حَتَّى يَجِيءَ الَّذِي لَهُ- أَيِ: الْحُكْمُ- بِدَلَالَةِ مَسَاقِ الْآيَةِ وَسِيَاقِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَإِلَيْهِ تَجْتَمِعُ الشُّعُوبُ فَهِيَ عَلَامَةٌ صَرِيحَةٌ وَدَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا هُوَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّهُ مَا اجْتَمَعَ الشُّعُوبُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الزَّبُورُ؛ لِأَنَّهُ لَا أَحْكَامَ فِيهِ، وَدَاوُدُ النَّبِيُّ تَابِعٌ لِمُوسَى، وَالْمُرَادُ مِنْ خَبَرِ يَعْقُوبَ هُوَ صَاحِبُ الْأَحْكَامِ انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ.
أَقُولُ: إِنَّمَا أَرَادَ مِنَ الْحَاكِمِ مُوسَى عليه السلام؛ لِأَنَّ شَرِيعَتَهُ جَبْرِيَّةٌ انْتِقَامِيَّةٌ وَمِنَ الرَّاسِمِ عِيسَى عليه السلام؛ لِأَنَّ شَرِيعَتَهُ لَيْسَتْ بِجَبْرِيَّةٍ وَلَا انْتِقَامِيَّةٍ، وَإِنْ أُرِيدَ مِنَ الْقَضِيبِ السَّلْطَنَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ، وَمِنَ الْمُدَبِّرِ الْحَاكِمُ الدُّنْيَوِيُّ- كَمَا يُفْهَمُ مِنْ رَسَائِلِ الْقِسِّيسِينَ مِنْ فِرْقَةِ بُرُوتُسْتَنْتْ، وَمِنْ بَعْضِ تَرَاجِمِهِمْ- فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بشيلوه مَسِيحُ الْيَهُودِ كَمَا هُوَ مَزْعُومُهُمْ، وَلَا عِيسَى عليه السلام كَمَا هُوَ مَزْعُومُ النَّصَارَى. أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ السَّلْطَنَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ وَالْحَاكِمَ الدُّنْيَوِيَّ زَالَا مِنْ آلِ يَهُوذَا مِنْ مُدَّةٍ هِيَ أَزْيَدُ مَنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ مِنْ عَهْدِ بُخْتُنَصَّرَ، وَلَمْ يُسْمَعْ إِلَى الْآنِ حَسِيسُ مَسِيحِ الْيَهُودِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُمَا زَالَا مِنْ آلِ يَهُوذَا أَيْضًا قَبْلَ ظُهُورِ عِيسَى عليه السلام بِمِقْدَارِ سِتِّمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ عَهْدِ بُخْتُنَصَّرَ، وَهُوَ أَجْلَى بَنِي يَهُوذَا إِلَى بَابِلَ وَكَانُوا فِي الْجَلَاءِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً لَا سَبْعِينَ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ عُلَمَاءِ بُرُوتُسْتَنْتْ تَغْلِيظًا لِلْعَوَامِ- كَمَا عَرَفْتَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ انتيوكس مَا وَقَعَ فَإِنَّهُ عَزَلَ أَنْيَاسَ حِبْرَ الْيَهُودِ وَبَاعَ مَنْصِبَهُ لِأَخِيهِ يَاسُونَ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ وَزْنَةَ ذَهَبٍ يُقَدِّمُهَا لَهُ خَرَاجًا كُلَّ سَنَةٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَبَاعَ ذَلِكَ لِأَخِيهِ مِينْالَاوِسَ بِسِتِّمِائَةٍ وَسِتِّينَ وَزْنَةً، ثُمَّ شَاعَ خَبَرُ مَوْتِهِ فَطَلَبَ يَاسُونَ أَنْ يَسْتَرِدَّ لِنَفْسِهِ الْكَهَنُوتَ، وَدَخَلَ أُورْشَلِيمَ بِأُلُوفٍ مِنَ الْجُنُودِ فَقَتَلَ كُلَّ مَنْ كَانَ يَظُنُّهُ عَدُوًّا لَهُ- وَهَذَا الْخَبَرُ كَانَ كَاذِبًا- فَهَجَمَ أنتيوكس عَلَى أُورْشَلِيمَ وَامْتَلَكَهَا ثَانِيَةً فِي سَنَةِ 170 قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَبَاعَ مِثْلَ ذَلِكَ عَبِيدًا وَفِي الْفَصْلِ الْعِشْرِينَ مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ مُرْشِدِ الطَّالِبِينَ فِي بَيَانِ الْجَدْوَلِ التَّارِيخِيِّ فِي الصَّفْحَةِ 481 مِنَ النُّسْخَةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ 1852 مِنَ الْمِيلَادِ إِنَّهُ نَهَبَ أُورْشَلِيمَ وَقَتَلَ ثَمَانِينَ أَلْفًا. اهـ، وَسَلَبَ مَا كَانَ فِي الْهَيْكَلِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ قِيمَتُهَا ثَمَانِمِائَةِ وَزْنَةِ ذَهَبٍ، وَقَرَّبَ خِنْزِيرَةً وَقُودًا عَلَى الْمَذْبَحِ لِلْإِهَانَةِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى إِنْطَاكِيَّةَ وَأَقَامَ فَيَلْبِسُ أَحَدُ الْأَرَاذِلِ حَاكِمًا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ- وَفِي رِحْلَتِهِ الرَّابِعَةِ إِلَى مِصْرَ أَرْسَلَ أَبُولُوينُوسَ بِعِشْرِينَ أَلْفًا مِنْ جُنُودِهِ وَأَمْرَهُمْ أَنْ يُخَرِّبُوا أُورْشَلِيمَ، وَيَقْتُلُوا كُلَّ مَنْ فِيهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَيَسُبُّوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ فَانْطَلَقُوا إِلَى هُنَاكَ، وَبَيْنَمَا كَانَ النَّاسُ فِي الْمَدِينَةِ مُجْتَمِعِينَ لِلصَّلَاةِ يَوْمَ السَّبْتِ هَجَمُوا عَلَيْهِمْ عَلَى غَفْلَةٍ فَقَتَلُوا الْكُلَّ إِلَّا مَنْ أَفْلَتَ إِلَى الْجِبَالِ أَوِ اخْتَفَى فِي الْمُغَاوِرِ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَ الْمَدِينَةِ وَأَحْرَقُوهَا وَهَدَمُوا أَسْوَارَهَا وَخَرَّبُوا مَنَازِلَهَا، ثُمَّ ابْتَنَوْا لَهُمْ مَنْ بَسَائِطِ ذَلِكَ الْهَدْمِ قَلْعَةً حَصِينَةً عَلَى جَبَلِ أَكْرَا، وَكَانَتِ الْعَسَاكِرُ تَشْرُفُ مِنْهَا عَلَى جَمِيعِ نَوَاحِي الْهَيْكَلِ، وَمَنْ دَنَا مِنْهُمْ يَقْتُلُونَهُ ثُمَّ أَرْسَلَ أَنْتِيُوكسُ أَثَانِيُوسَ لِيُعَلِّمَ الْيَهُودَ طُقُوسَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الْيُونَانِيَّةِ، وَيَقْتُلَ كُلَّ مَنْ لَا يَتَمَثَّلُ ذَلِكَ الْأَمْرَ، فَجَاءَ أَثَانِيُوسُ إِلَى أُورْشَلِيمَ، وَسَاعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْيَهُودِ الْكَافِرِينَ، وَأَبْطَلَ الذَّبِيحَةَ الْيَوْمِيَّةِ، وَنَسَخَ كُلَّ طَاعَةٍ لِلدِّينِ الْيَهُودِيِّ عُمُومًا وَخُصُوصًا، وَأَحْرَقَ كُلَّ مَا وَجَدَهُ مِنْ نُسْخِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ بِالْفَحْصِ التَّامِّ وَكَرَّسَ الْهَيْكَلَ لِلْمُشْتَرِي، وَنَصَبَ صُورَةَ ذَلِكَ عَلَى مَذْبَحِ الْيَهُودِ، وَأَهْلَكَ كُلَّ مَنْ وَجَدَهُ مُخَالِفًا أَمْرَ أَنْتِيُوكسَ، وَنَجَا مَتَاثَيَاسُ الْكَاهِنُ مَعَ أَبْنَائِهِ الْخَمْسَةِ فِي هَذِهِ الدَّاهِيَةِ، وَفَرُّوا إِلَى وَطَنِهِمْ مُودِينَ فِي سِبْطِ دَانٍ، فَانْتَقَمَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ انْتِقَامًا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ- عَلَى اسْتِطَاعَتِهِ- كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي التَّوَارِيخِ، فَكَيْفَ يَصْدُقُ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى عِيسَى عليه السلام؟